فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما القول فإنه سبحانه لما علم أن لسان الحال إنما يرمز رمزًا خفيًا لا يفهمه إلا الأفراد وإن كان بعد التحقيق جليًا، أنزل عليما كتابًا مفصحًا بالمراد أثنى فيه على نفسه، وبين صفات كماله بالبيان الذي يعجز عنه القوى، ثم جعل الإعجاز دلالة قطعية على كماله، وعلى كل ما له من جلاله وجماله، وقد علم من هذه التعاريف أن بين الحمد والشكر اللغويين عمومًا وخصوصًا من وجه، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل وهي الصفات الجميلة التي لا يتجاوز منها أثر ومنفعة إلى غير الممدوح كالشجاعة، والشكر يختص بالفواضل وهي النعم وهي الصفات والمزايا المتعدية التي يحصل منها منفعة لغير الممدوح كالإحسان والمواهب والعطايا كما مضى، وبين الحمد والشكر العرفيين عمومًا وخصوصًا مطلقًا، فالحمد أعم مطلقًا لعموم النعم الواصلة إلى الحامد وغيره، واختصاص الشكر بما يصل إلى الشاكر، وذلك لأن المنعم المذكور في التعريف مطلق لم يقيد بكونه منعمًا على الحامد أو على غيره، فمتناولهما بخلاف الشكر وقد اعتبر فيه منعم مخصوص وهو الله تعالى، ونعم واصلة منه إلى الشاكر، ولعموم هذا الحمد مطلقًا وخصوص هذا الشكر مطلقًا وجه ثان، وهو أن فعل القلب واللسان مثلًا قد يكون حمدًا وليس شكرًا أصلًا، إذ قد اعتبر فيه شمول الآلات، ووجه ثالث وهو أن الشكر بهذا المعنى لا يتعلق بغيره تعالى بخلاف الحمد، وما يقال من أن النسبة بالعموم المطلق، بين العرفيين إنما تصح بحسب الوجود دون الحمل الذي كلامنا فيه، لأن الحمد بصرف القلب مثلًا فيما خلق لأجله جزء من صرف الجميع غير محمول عليه لامتيازه في الوجود عن سائر أجزائه وأما في الحمل فلا يمتاز المحمول عن الموضوع في الوجود الخارجي، فغلظ من باب اشتباه الشيء بما صدق هو عليه، فإن ما ليس محمولًا على ذلك الصرف هو ما صدق عليه الحمد، أعني صرف القلب وحده لا مفهومه المذكور، وهو فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا، وهذا المفهوم يحمل على صرف الجميع، وما يقال إن صرف الجميع أفعال متعددة، فلا يصدق عليه أنه فعل واحد، وما يقال إن صرف الجميع أفعال متعددة، فلا يصدق عليه أنه فعل واحد، جوابه أنه فعل واحد تعدد متعلقه، فلا ينافي وصفه بالوحدة كما يقال: صدر عن زيد فعل واحد إكرام جميع القوم مثلًا، وتحقيقه أن المركب قد يوصف بالوحدة الحقيقية كبدن واحد، والاعتبارية كعسكر واحد، وصدق الجميع من قبيل الثاني كما لا يرتاب فيه ذو مسكة، والنسبة بين الحمدين اللغوي والعرفي عموم وخصوص من وجه، لأن الحمد العرفي هو الشكر اللغوي، وقد مضى بيان ذلك فيهما.
وبين الشكر العرفي واللغوي عموم مطلق لأن الشكر اللغوي يعم النعمة إلى الغير دون العرفي فهو أعم، والعرفي أخص مطلقًا، وكذا بين الشكر العرفي والحمد اللغوي لأن الأول مخصوص بالنعمة على الشاكر سواء كان باللسان أو لا، والثاني وإن خص باللسان فهو مشترط فيه مطابقة الأركان والجنان، ليكون على وجهة التبجيل، وقد لا يكون في مقابلة نعمة فهو أعم مطلقًا فكل شكر عرفي حمد لغوي، ولا ينعكس وهذا بحسب الوجود، وكذا بين الحمد العرفي والشكر اللغوي عموم مطلق أيضًا إذا قيدت النعمة في اللغوي بوصولها إلى الشاكر كما مر، وأما إذا لم تقيد فهما متحدان، وأما الشكر المطلق فهو على قياس ما مضى تعظيم المنعم بصرف نعمته إلى ما يرضيه، ولا يخفى أنه إذا كان نفس الحمد والشكر من النعم لم يمكن أحدًا الإتيان بهما على التمام والكمال لاستلزامه تسلسل الأفعال إلى ما لا يتناهى، وهذا التحقيق منقول عن إمام الحرمين والإمام الرازي- هذا حاصل ما في شرح المطالع للقطب الرازي وحاشيته للشريف الجرجاني بزيادات، وقد علم صحة ما أسلفته في شرح الحمد بالنظر إلى الحامد وبالنظر إلى المحمود، وإذا جمعت أطراف ما تقدم في سورة النحل والفاتحة وغيرهما من أن المادة تدور على الإحاطة علم أنه بالنظر إلى الحامد وصفة المحمود بالإحاطة بأوصاف الكمال، وبالنظر إلى المحمود اتصافه بالإحاطة بأوصاف الكمال، فإن الوصف يشترط أن يكون مطابقًا وإلا كان مدحًا لا حمدًا، كما حققه العلامة قاضي دمشق شمس الدين أحمد بن خليل الخويي في كتابه أقاليم التعاليم.
ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاد الآخرة قال: {وهو الحكيم} أي الذي بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلًا بالعمل على وفقه.
ولما كانت الحكمة لا تتهيأ إلا بدقيق العلم وصافيه ولبابه وهو الخبرة قال: {الخبير} أي البليغ الخبر وهو العلم بظواهر الأمور وبواطنها حالًا ومالًا، فلا يجوز في عقل انه- وهو المتصف بهاتين الصفتين كما هو مشاهد في إتقان أفعاله وإحكام كل شيء سمعناه من أقواله- يخلق الخلق سدى من غير إعادة لدار الجزاء، وقد مضى في الفاتحة وغيرها عن العلامة سعد الدين التفتازاني أنه قال: التصدير بالحمد إشارة إلى إمهات النعم الأربع، وهي الإيجاد الأول، والإيجاد الثاني، والإبقاء الأول، والإبقاء الثاني، وأن الفاتحة لكونها أم الكتاب أشير فيها إلى الكل، ثم أشير في كل سورة صدرت بعدها بالحمد إلى نعمة منها على الترتيب، وأنه أشير في الأنعام إلى الإيجاد الأول وهو ظاهر وفي الكهف إلى الإبقاء الأول، لأن انتظام البقاء الأول والانتفاع بالإيجاد لا يكون إلا بالكتاب والرسول، وأنه أشير في هذه السورة إلى الإيجاد الثاني لانسياق الكلام إلى إثبات الحشر والرد على منكري الساعة حيث قال سبحانه {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي} انتهى، وقد علم مما قررته أنها من أولها مشيرة إلى ذلك على طريق البرهان.
وقال أبو جعفر بن الزبير: افتتحت بالحمد لله لما أعقب بها ما انطوت عليه سورة الأحزاب من عظيم الآلاء وجليل النعماء حس ما أبين- آنفًا- يعني في آخر كلامه على سورة الأحزاب- فكان مظنة الحمد على ما منح عباده المؤمنين وأعطاهم فقال تعالى: {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} ملكًا واختراعًا، وقد أشار هذا إلى إرغام من توقف منقطعًا عن فهم تصرفه سبحانه في عباده بما تقدم وتفريقهم بحسب ما شاء فكأن قد قيل: إذا كانوا له ملكًا وعبيدًا، فلا يتوقف في فعله بهم ما فعل من تيسير للحسنى أو لغير ذلك مما شاءه بهم على فهم علته واستطلاع سببه، بل يفعل بهم ما شاء وأراد من غير حجر ولا منع {وهو الحكيم الخبير} وجه الحكمة في ذلك التي خفيت عنكم، وأشار قوله: {وله الحمد في الآخرة} إلى أنه سيطلع عباده المؤمنين- من موجبات حمده ما يمنحهم أو يضاعف لهم من الجزاء أو عظيم الثواب في الآخرة- على ما لم تبلغه عقولهم في الدنيا ولا وفت به أفكارهم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] ثم أتبع سبحانه ما تقدم من حمده على ما هو أهله ببسط شواهد حكمته وعلمه فقال تعالى: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} إلى قوله: {وهو الرحيم} فبرحمته وغفرانه أنال عباده المؤمنين ما خصهم به وأعطاهم، فله الحمد الذي هو أهله، ثم أتبع هذا بذكر إمهاله من كذب وكفر مع عظيم اجترائهم لتتبين سعة رحمته ومغفرته فقال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} إلى قوله: {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} أي إن في إمهاله سبحانه لهؤلاء بعد عتوهم واستهزائهم في قولهم {لا تأتينا الساعة} وقوله: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أنكم لفي خلق جديد} وإغضائهم عن الاعتبار بما بين أيديهم من السماء والأرض وأمنهم أخذهم من أي الجهات وفي إمهالهم وإدرار أرزاقهم مع عظيم مرتكبهم آيات لمن أناب واعتبر، ثم بسط لعباده المؤمنين من ذكر الآية ونعمه وتصريفه في مخلوقاته ما يوضح استيلاء قهره وملكه، ويشير إلى عظيم ملكه كما أعلم في قوله سبحانه {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} فقال سبحانه {ولقد آتينا داود منا فضلًا يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد} ثم قال: {ولسليمان الريح} إلى قوله: {اعملوا آل داود شكرًا} ثم أتبع ذلك بذكر حال من لم يشكر فذكر قصة سبأ إلى آخرها، ثم وبخ تعالى من عبد غيره معه بعد وضوح الأمر وبيانه فقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} إلى وصفه حالهم الأخروي ومراجعة متكبريهم ضعفاءهم وضعفائهم متكبريهم {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} ثم التحمت الآي جارية على ما تقدم من لدن افتتاح السورة إلى ختمها- انتهى.
ولما ختم بصفة الخبر، أتبع ذلك ما يدل عليه فقال: {يعلم ما يلج في الأرض} أي هذا الجنس من المياه والأموال، والأموات، وقدم هذا لأن الشيء يغيب في التراب أولًا ثم يسقى فيخرج {وما يخرج منها} من المياه والمعادن والنبات {وما ينزل من السماء} أي هذا الجنس من حرارة وبرودة وماء وملك وغير ذلك {وما يعرج} ولما كانت السماوات أجسامًا كثيفة متراقية، لم يعبر بحرف الغاية كما في قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] بل قال: {فيها} أي من الأعمال والملائكة وكل ما يتصاعد من الأرض في جهة العلو وأنتم كما ترونه يميز كل شيء عن مشابهه، فيميز ما له أهلية التولد من الماء والتراب في الأرض من النباتات عن بقية الماء والتراب على اختلاف أنواعه مميزًا بعضه من بعض، ومن المعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص إلى غير ذلك، مع أن الكل ما يخالط الزاب، فكيف يستبعد عليه أن يحيي الموتى لعسر تمييز تراب كل ميت بعد التمزق والاختلاط من تراب آخر.
ولما كان الحاصل من هذا المتقدم أنه رب كل شيء، وكان الرب لا تنتظم ربوبيته إلا بالرفق والإصلاح، وكان ربما ظن جاهل انه لا يعلم أعمال الخلائق لأنه لو علمها ما أقر عليها، اعلم أن رحمته سبقت غضبه، ولذلك قدم صفة الرحمة، ولأنه في سياق الحمد، فناسب تقديم الوصف الناظر إلى التكميل على الوصف النافي للنقص فقال: {وهو} أي والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للأبدان {الرحيم} أي المنعم بما ترضاه الإلهية من إنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان {الغفور} أي المحاء للذنوب أما من اتبع ما أنزل من ذلك كما بلغته الرسل فبالمحو عينًا وأثرًا حتى لا يعاقبهم على ما سلف منها ولا يعاتبهم، وأما غيره فالتكفير بأنواع المحن أو التأخير إلى يوم الحشر. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{عالم الغيب} بالرفع: أبو جعفر ونافع وابن عامر ورويس.
{علام} بالجر وبناء المبالغة: حمزة وعلي. الباقون {عالم} بالجر وبدون المبالغة.
{معاجزين} بالألف وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو {معجزين} بالتشديد {رجز أليم} بالرفع صفة العذاب وكذلك في الجاثية: ابن كثير وحفص ويعقوب وجبلة. الآخرون: بالجر {إن يشأ يخسف} {أو يسقط} على الغيبة فيهما: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون {نخسف بهم} بإدغام الفاء في الباء: علي {كسفًا} بفتح السين: حفص غير الخزاز {والطير} بالرفع حملًا على لفظ المنادى: يعقوب غير رويس الآخرون: بالنصب حملًا على المحل أو لأنه مفعول معه أو معطوف على {فضلًا} بمعنى وسخرنا له الطير {الريح} بالرفع: أبو بكر وحماد والمفضل بتقدير: ولسليمان الريح مسخرة أو سخرت الريح له {الرياح} بالرفع أيضًا ولكن مجموعًا: يزيد. الباقون موحدًا منصوبًا {كالجوابي} بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو وورش في الوصل {عبادي الشكور} يسكون الياء حمزة والوقف بالياء لا غير {منساته} بالألف: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب. وقرأ ابن ذكوان ساكنة الهمزة. الآخرون: بفتح الهمزة {تبينت الجن} على البناء للمفعول: يعقوب غير زيد {سبأ} غير مصروف: أبو عمرو والبزي {سبأ} بهمزة ساكنة: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل {سبأ} بالألف: ابن فليح وزمعة والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون {مسكنهم} بفتح الكاف: حمزة وحفص، وبكسرها علي وخلف الباقون {مساكنهم} مجموعة {بجنتيهم} بضم الهاء: سهل ويعقوب {أكل خمط} بضم الكاف والإضافة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بالسكون والتنوين {نجازي} بضم النون وكسر الزاي {إلا الكفور} بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص ويعقوب. الآخرون: بضم الياء وفتح الزاي وبرفع {الكفور} {ربنا} بالرفع {باعد} بلفظ الماضي من المفاعلة: سهل. الآخرون: {ربنا} بالنصب على النداء {باعد} على الأمر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام {بعد} أمرًا من التبعيد {صدّق} بالتشديد: عاصم وعلي وخلف. الباقون بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق يظن ظنًا نحو فعلته جهدك.

.الوقوف:

{في الآخرة} ط {الخبير} o {فيها} ط {الغفور} o {الساعة} ط {لتأتينكم} o لمن قرأ {عالم} بالرفع أي هو عالم ومن خفض جعله نعتًا لربي فلم يقف {بالغيب} ج لأن قوله: {لا يعزب} يصلح حالًا واستئنافًا {مبين} o لا لتعلق اللام أبو حاتم يقف {الصالحات} ط {كريم} o {أليم} o {الحق} ج لأن قولهن {ويهدي} عطف على المعنى اي يحق قبوله ويهدي {الحميد} o {ممزق} ط لأن ما بعده في حكم المفعول لأنه مفعول ثان ل {ينبئكم} وإنما كسرت لدخول اللام في خبرها {جديد} o ج للآية ولاتحاد المقول {جنة} ط {البعيد} o {الأرض} ط {السماء} ط {منيب} o {فضلًا} ط {والطير} ج لأن ما يتلوه يصلح حالًا واستئنافًا {الحديد} o لا لتعلق أن {صالحًا} ط {بصير} o {ورواحها شهر} ط لأن قوله: {واسلنا} عطف على محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح {القطر} ط {ربه} ط {السعير} o {راسيات} ط {شكرًا} ط {الشكور} o {منسأته} o {المهين} o {آية} ج لاحتمال أن يكون التقدير هي جنتان وأن يكون بدلًا من آية {وشمال} ط {له} ط اي لكم بلدة {غفور} o {قليل} o {كفروا} ط {الكفور} o {السير} ط {آمنين} o {ممزق} ط {الشكور} o {المؤمنين} o {شك} ط {حفيظ} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}.
السور المفتتحة بالحمد خمس سور سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة والخامسة وهي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء، فإن الله تعالى خلقنا أولًا برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما يدوم فلنا حالتان الابتداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ويدل عليه قوله تعالى فيه: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} [الأنعام: 2] إشارة إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية وهي الكهف {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2] إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء، فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع ينقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ولو وقعت المنازعات في المشتبهات وأدى إلى التقاتل والتفاني، ثم قال في هذه السورة {الحمد للَّهِ} إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَهُ الحمد في الأخرة} وقال في الملائكة: {الحمد للَّهِ} إشارة إلى نعمة الإبقاء ويدل عليه قوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا} [فاطر: 1] والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلًا إلى يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين كما قال تعالى: {وتتلقاهم الملئكة} [الأنبياء: 103] وقال تعالى عنهم: {سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر النعمتين بقوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] إشارة إلى النعمة العاجلة وقوله: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] إشارة إلى النعمة الآجلة قرئت في الافتتاح وفي الاختتام، ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
الحمد شكر والشكر على النعمة والله تعالى جعل ما في السموات وما في الأرض لنفسه بقوله: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ولم يبين أنه لنا حتى يجب الشكر نقول جوابًا عنه الحمد يفارق الشكر في معنى وهو أن الحمد أعم فيحمد من فيه صفات حميدة وإن لم ينعم على الحامد أصلًا، فإن الإنسان يحسن منه أن يقول في حق عالم لم يجتمع به أصلًا أنه عالم عامل بارع كامل فيقال له إنه يحمد فلانًا ولا يقال إنه يشكره إلا إذا ذكر نعمه أو ذكره على نعمه فالله تعالى محمود في الأزل لاتصافه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال ومشكور ولا يزال على ما أبدى من الكرم وأسدى من النعم فلا يلزم ذكر النعمة للحمد بل يكفي ذكر العظمة وفي كونه مالك ما في السموات وما في الأرض عظمة كاملة فله الحمد على أنا نقول قوله: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} يوجب شكرًا أتم مما يوجبه قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض} [البقرة: 29] وذلك لأن ما في السموات والأرض إذا كان لله ونحن المنتفعون به لا هو، يوجب ذلك شكرًا لا يوجبه كون ذلك لنا.
المسألة الثانية:
قد ذكرتم أن الحمد هاهنا إشارة إلى النعمة التي في الآخرة، فلم ذكر الله السموات والأرض؟ فنقول نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض، ثم قال: {وَلَهُ الحمد في الآخرة} ليقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها وفناء العاجلة ولهذا قال: {وَهُوَ الحكيم الخبير} إشارة إلى أن خلق هذه الأشياء بالحكمة والخير، والحكمة صفة ثابتة لله لا يمكن زوالها فيمكن منه إيجاد أمثال هذه مرة أخرى في الآخرة.
المسألة الثالثة:
الحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمرًا ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، فالفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها فقوله: {حَكِيمٌ} أي في الابتداء يخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق وما لا يصدر إلى ماذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}.
ما يلج في الأرض من الحبة والأموات ويخرج منها من السنابل والأحياء وما ينزل من السماء من أنواع رحمته منها المطر ومنها الملائكة ومنها القرآن، وما يعرج فيها منها الكلم الطيب لقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} ومنها الأرواح ومنها الأعمال الصالحة لقوله: {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء، لأن الحبة تبذر أولًا ثم تسقى ثانيًا.
المسألة الثانية:
قال: {وما يعرج فيها} ولم يقل يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة ومرتبة النفوس الزكية وهذا لأن كلمة إلى للغاية، فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه، وأما السماء فهي دنيا وفوقها المنتهى.
المسألة الثالثة:
قال: {وَهُوَ الرحيم الغفور} رحيم بالإنزال حيث ينزل الرزق من السماء، غفور عندما تعرج إليه الأرواح والأعمال فرحم أولًا بالإنزال وغفر ثانيًا عند العروج. اهـ.